الكتابة الشذرية بين النظرية و التطبيق جميل حمداوي
تُعد المقاربة النقدية الشذريةُ الجديدةُ التي أسَّسها الدكتور الناقد جميل حمداوي، منهجيةً إجرائيةً ذات جدوى كبيرة في دراسة أنماط الكتابة الشذرية، لأنها تتكئ على أدواتٍ منهجيةٍ غاية في الضبط و الرصد النقديين، بحيثُ تُمَكِّنُ أي دارسٍ من 《تفكيك》 البنية الكتابية للشذرات، و نشَدّدُ، هُنا، على مُفردة 《تفكيك》 لأنها تدلُّ، و لا شكَّ، على النزعة التقويضية لهاته المقاربة، مما يجعلُها تتلائَمُ و طبيعة التكوين الشذري نفسه الذي يعتمدُ "المقاطع المتشطية... و أسلوب الكتابة اللانسقية الذي يعتمد على المقطع أو الشذرة أو النصّ الطليق"1، و هذا 《التفكيك》، الذي نتحدَّثُ عنه، هو نفسه التَّصور الذي نجده لدى الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا. إذاً؛ فما أوجه التأثر بين المقاربة النقدية-الشذرية و بين النقد التفكيكي ؟ هذا ما سنحاولُ رصدَهُ في السطور التالية.
لا يختلِفُ اثنان حول طبيعة التصور 《الدريدي》 من المنظور التفكيكي، ذلك أنه سعى من خلاله إلى التشكيك في كل المقولات الغربية المركزية اللوغوسية(كالعقل و الصوت و الأنا..)، و بالتالي الإيمان بأنه لا وجود لعلاقات متجانسة في شيء ما تمكن من الوصول إلى حقيقته الحاسمة، مما يجعل، حسب الفيلسوف، كل شيء غير قابل للحصر و الضبط، هذا التصور نبتَ في بنية فلسفية صِرف، لكن سرعان ما انتقل إلى مجال الأدب مع مجموعة من الأمريكيين كـ"بول دو مان" Paul de Man، و هيرش Hirsh، أو ما يعرف بجماعة "ييل"، ليتم إنبات التصور التفكيكي في البيئة الأدبية و يُجعَلَ منهُ 《منهجا》 في دراسة الظواهر الأدبية، هذه المفردة (أي كلمة منهج) التي نفاها، مِراراً، دريدا، عن تفكيكيته، و ذلك ليجد حريته التامة في التعامل مع النصوص، لأن المنهج يفرض أدوات ميكانيزمية محددة لا يستطيع الناقد التملصّ منها.
أما بخصوص المقاربة النقدية-الشذرية، فهي تؤمن بخصوصية التصور التفكيكي و ملائمته لنقد الشذرة، خصوصا و أن الشذرات عبارة عن نص متفرع إلى نصوص متعددة قد تصل العلاقة بينها إلى حدّ التناقض، لأنه من الصعب بمكان حصرة الدلالة المركزية لهذه البنية، و لمّا كانت الشذرات تحمل هذا الطابع المتشظي و اللانسقي كان من الأجدى ان تتعرض للنقد التفكيكي الذي يتأسس على التشتيت و التقويض، هذا ما نجده في المقاربة النقدية- الشذرية، و بالخصوص الخطوات الثلاث التي سنأتي على تبيانها كالتالي:
أولاً آلية التدوين:
تعودُ بنا مفردة 《التدوين》 المرادفة لمفردة 《كتابة》 إلى أعمال 《دريدا》 الأولى، خصوصا في مؤلّفه 《الكتابة و الاختلاف》2، إذ يؤكد فيه، من ضمن ما يؤكد، على ضرورة إيلاء الاهتمام لـ《لكتابة 》بما هي ثورة على المعتقدات المتجذرة في الميتافيزيقا الغربية التي كانت ترفع من شأن الصوت و الكلام لأنهما يدلان على وجود المتحدث مما يساهم، بشكل أكبر، في إغناء التواصل و تحقيق الفائدة*، هذا المعتقدات مهدت لدريدا بالإعلان عن 《موت الكلام》 و ولادة الكتابة، و بالتالي الكف عن اعتبار الكتابة مجرد 《ملحق》 و 《زيادة》. و هذا ما نجده أيضا في المقاربة النقدية -الشذرية، اذ تؤكد على ان الشذرات مظهر من مظاهر انتقال الابداع من الكلام الارتجالي الى معانقة الكتابة و التدوين.
ثانياً آلية التأجيل:
حينما يكونُ "من الصّعب ان يكتمل المعنى" 3 و ان يتم حصره و الحصول عليه، فذلك هو《 التأجيل》 نفسه الذي تحملُ معناهُ الكلمة التي أحدثتْ ضوضاء كبرى في الساحة الفلسفية و النقدية، نعني كلمة Différance، ذات اللاحقة 《ance》 بدل اللاحقة 《ence》 فالثانية تعني الاختلاف، اما الأولى فقد ابتكرها دريدا من تلقاء نفسه ليَخْرج بها عما درج عليه لسان موليير!.. و تعني هذه المفردة المبتكرة، من ضمن ما تعنيه، بحسب دريدا، التأجيل و الإرجاء، ذلك أن قراءة النص لا يعني الحصول على معناه الكامن وراء سطوره بقدر ما يعني أن المعنى دائما في حالة زئبقية مستمرة لا يمكن، بأي حال، الوصول إليه، فالحقيقة بالنسبة لدريدا غير موجودة أصلاً!.. و قد حاول العديد من الدارسين ترجمة هذه المفردة من بينهم حسام نايل الذي اقترح مصطلح 《الاختلاف المُرجِئ》4 كما اقترح دارس آخر و هو كاظم جهاد مصطلح 《الاخ(ت)لاف》5 بوضع التاء بين قوسين.. و بأي حال من الأحوال فمفردة Différance، تشير بقوة إلى دلالة التأجيل، هذا ما ينطبقُ على المقاربة النقدية الشذرية، إذ تؤكد على أنه " دائما هناك تأجيل للمعنى النهائي. دائما هناك تراكم للمعاني و تراكب لها. بمعنى ان المعنى لا يتوقف عند شذرة معينة، بل ينفلت عبر الشذرات المتقطعة"6، و لذلك فمراعاة خاصيةَ الشذرةِ الإرجائيةَ يستلزمُ إجراءً يواكب هذا الإرجاء و هو آلية 《التأجيل》.
ثالثاً آلية التقويض:
يُعتبر مصطلح التقويض من المصطلحات الأشدّ 《دْريديةً》 (نسبةً إلى جاك دريدا)، و مركز العمل التفكيكي بالذات، استخدمه 《جاك دريدا》 في إلحاحه على هدم المقولات الميتافيزيقية 《المتمركزة لوغوسيا》، و بالتالي السير في طريق الاختلاف و التفكيك و التشتيت..، و كما يسعى دريدا مراراً الى تقويض الفلسفة الميتافيزيقيا التي تمجد العقل و الصوت و الكلام و الحقيقة، تسعى كذلك الشذرة إلى الثورة على كل المقاييس المنطقية الصارمة و المعتقدات التي تعتمد على النسقية و النظامية، فالشذرة تثور على كل هذا و تعلن تقويضها لفكرة النظام نفسه، لأنها تتأسس على التقطيع و التبديد و اللانسقية و المعنى السابح و المؤجّل.. مما يجعل الكتابة الشذرية كتابةً تفكيكية و تقويضيةً بامتياز. و المقاربة الشذرية راعت هذه الخاصية فجعلتها ضمن أدواتها الإجرائية الأساسية في نقد الشذرات و دراستها دراسة شاملة و كلية.
و نهايةً، يتجلى لنا بوضوح مدى جدوى هذه المقاربة الجديدة التي تأسست على يد الناقد المغربي جميل حمداوي، ذلك أنها تُوائم، إلى حدّ بعيد، طبيعة الكتابة الشذرية، مما يبعدنا عن المناهج غير المجدية، و التي تهدف إلى إفراغ النص من دلالته حيناً و تحليل بنيته اللسانية حيناً أخرى، فالمقاربة النقدية الشذرية تنمازُ بطبيعتها الشاملة و الحاوية لكل أنماط التشذير، و بخصوص تفكيكيتها (أي المقاربة) فهذا أمر أساسي و مجدٍ، بلهُ، ضروري لمعالجة نصوص متميزة كالشذرات، التي يستعصي تحليلُها على المنهج الضيق .
1 جميل حمداوي، "الكتابة الشذرية بين النظرية و التطبيق" ص13، منشورات المعارف 2014، ط 1
2 جاك دريدا، "الكتابة و الاختلاف"، ترجمة: كاظم جهاد، دار توبقال للنشر،2000، ط 2، 《ينظر المقال المعنون ب"نهاية الكتاب و بداية الكتابة" ص 104 و ما بعدها.
* يعد سقراط، باعتباره احد البدايات الأولى الميتافيزيقا الغربية، فيلسوفا يذم الكتابة و يعتبرها موتا، كما قال عنه نيتشه 《سقراط، هذا الذي لا يكتب》.
3 "الكتابة الشذرية" م. س. ص 96 .
4 مجموعة من الكتاب "البنيوية التفكيك مداخل نقدية" ترجمة: حسام نايل، دار أزمنة، ط1
5 "الكتابة و الاختلاف" م. س. ص 31.
6 "الكتابة الشذرية"، م. س. ص 96.
محمد مختاري: باحث مغربي في الدراسات النقدية والأدبية.